الأشـقـر (3) والأخير

الأشـق..."> الأشـقـر (3) الجزء الأخير

موقع الأديب سعيد العلمي. منذ 2020/10/2 WEB del escritor Saïd Alami. Desde 2/10/2020 |
ALBUM DE FOTOS | LIBRO DE VISITAS | CONTACTO |
 
 

WWW.ARABEHISPANO.NET المـوقـع الـعـربي الإسـباني


(إسبانيا) موقع الأديب سعيد العلمي

WEB del escritor y poeta Saïd Alami

وجوديات
وجدانيات
القصيدة الوطنية والسياسية
قصص سعيد العلمي
الصوت العربي الإسباني
POESÍA
RELATOS de Saïd Alami
La Voz Árabe-Hispana
Artículos de archivo, de Saïd Alami

 

الأشـقـر (3) والأخير

Imagen

سينيورا كايتنا، أريد أن أتجول في سيغـوفيا لأتعرف جيدا على هذه المدينة الشهيرة. ولكنني لا أود أن أفعل ذلك لوحدي وقد أصبح لي بكم أصدقاء طيبون في هذا البلد. فهل تسمحي للآنسة كارمن بمرافقتي لتريني مدينتها؟

وتبادلتُ نظرة خاطفة مع زوجي لم ألاحظ بها على وجهه أي علامة انزعاج، ولم أجد وسيلة ولا جرأة لرفض طلبه، وكنت أود أن أرفضه، ولكن أنىّ لي أن أقابل كل ذلك اللطف بالرفض! ولم أجد مفرا من السماح له باصطحاب كارمن، ولم أخـفِ علامات الامتعاض التي كانت بادية على وجهي بصراحة، ولكنه تجاهلها. وأخبرته أن كارمن لن تتأخر بالنزول الى المقهى فأجاب بأنه ذاهب لاستئجار سيارة للتجول بالمدينة وما حولها من قرى وأنه لن يتأخر بالعودة لمرافقة كارمن

وهنا هب الشيخ كما لو استيقظ فزعا من نوم عميق وقال هاتفا بصوته الأجش: - هنا كانت الغلطة. غلطتك وغلطة ابني ميغيل. فإن كان هو أحمق فكيف تتركين أنت ابنتك ترافق غريبا في سيارة؟ هكذا بدأت الفاجعة التي دمرت عائلتنا

وصمتت كايتانا إزاء فورة الشيخ وقد نكست رأسها اذ تملكها حزن عميق وهي تقترب بروايتها الى اللحظة الحاسمة. ووجدتـُـني إزاء حـزنها أتوجّه للشيخ قائلا له بهدوء: - هذا كلام سهل أن يقال الآن أيها الجد، ولكن من عـنده علم الغـيب من بين البشر؟

ورجوتُ كايتانا أن تواصل حديثها بينما رأيت يوسف واجما لايرمش له جفن بانتظار معرفة بقية ما حدث

واستأنفت المرأة حديثها فقالت: - حال انصراف الأشقر صعدت الى هنا وأخبرت كارمن بأن الفرنسي يريد أن ترافقه في جولته في أنحاء سيغوفيا ، فرأيت في عينيها فرحة عارمة حاولت دون جدوى أن تخفيها عني . وكما تفعل أي أم في مثل هذا الموقف أسديت لها النصائح وحذرتها منه حيث لم نكن نعرف عنه الا القليل ، هذا اضافة الى أنه يكاد يضاعفها عمرا. وواقع الأمر أنه لو كان شابا صغـير السن مثلها لما تركناها تذهب معه، فان الرجل الناضج يوحي بثقة وحكمة كثيرا ما تكونا مجرد سراب. وبعد قليل عاد الرجل وطلب منا بطريقة ظريفة وصاخبه أن نخرج لنلقي نظرة على السيارة التي استأجرها. وخرجتُ مع زوجي وكارمن الى باب المقهى، بل ولحق بنا بعض الزبائن من أصدقائنا، فاذ برينيه قد استأجر سيارة فخمة، أبدينا اعجابنا بها، فقال بزهو على مسمع من الزبائن أن جمال كارمن يستحق سيارة أفخم من تلك بكثير. ولكننا لم ننزعج لتلميحاته تلك لأنها صدرت عنه بلهجة بدت طبيعية وبريئة. وكنت ألاحظ أن ابنتي كارمن كانت في تلك اللحظات في غاية السعادة، كطفلة تلقت لتوها لعبة جديدة

وأذكر أن ابنتي الحبيبة كارمن قبلتني قبلة سريعة كعادتها ثم قبلت والدها واختها لوليتا قبل أن تصعد الى السيارة والسعادة تلتمع في عينيها ببراءة الأطفال . كانت في الثامنة عشر من عمرها آنذاك. ولم استطع مقاومة سؤال ألح علي بقوة في تلك اللحظة وحاولت طرده من ذهني دون جدوى: " أتـُرى وقعت كارمن في حب رينيه!! ياإلهي!". لم أكن أريد مجرد التفكير باحتمال مثل هذا... فالحب في مثل سنها أعمى وأهوج وتـُخشى عواقبه. وكنت أعلم علم اليقين أن ذلك الرجل كان من نوع الرجال الذين تقع الفتيات في حبهم بسهولة... رجلٌ وسيم ومثقف وغني ... وأشياء أخرى لم نكن نعرفها عـنه بعد... وشعرتُ بقلبي يهوي إلى قدميّ ... تـُرى أية أشياء تلك التي لم نكن نعرفها عنه؟... ونظرتُ إلى ابنتي وهي جالسة في المقعد الأمامي من السيارة وشعرها الطويل الأسود مسدول على ظهرها. وشعرتُ برغبة جامحة ومفاجـِئة بسؤال ذلك الغريب عن كل ما كنا نجهله عنه ... ولكن!!

وتوقفت كايتانا عن الكلام للحظات وهي في أوج انفعالها، وقد علت أنفاسها وضجت في صدرها كما لو كانت تمر بكابوس مخيف. ثم لم تلبث ان واصلت حديثها إزاء صمتنا المطبق، فقالت مطرقة إلى الأرض كسيرة الجناح : - وانطلقت السيارة انطلاقا عنيفا أعطاني للتو معلومة جديدة عن نوع الرجل القابع خلف مقودها، فتسارعـت نبضات قلبي وكدت أطلق ساقي للريح لألحق بها ... لألحق بابنتي الحبيبة. ولكنني لم أبد حراكا وظللت أتأمل السيارة حتى اختفت عن نظري

وصمتت المرأة من جديد. كان من الواضح أنها كانت تغالب دمعا سخينا تود أن تذرفه لترتاح قليلا ولكن وجودنا كان يدفعها لمزيد من المقاومة. أما الشيخ فكان مطرقا بدوره الى الأرض لايفتأ يهز رأسه أسفا وحسره ازاء تلك الذكريات المرة

ورفعت كايتانا رأسها ونظرت إلينا مليا بعينين محمرتين قبل أن تقول برباطة جأش تدربت عليها طيلة السنة التي مرت على ذلك الحدث: - أتعلمان ياسنيور يوسف وياسنيور عماد؟ لعلكـما لن تصدقا ما سأقوله لكما، فهو شيء يصعبُ تصديقه، لكنه هو الحقيقة المرة بعينها. كانت تلك آخر مرة رأيت فيها ابنتي كارمن ... لم أرها بعـد ذلك أبدا ... ولا أعتقد أنني سأراها

وهتف يوسف من فـرط المفاجأة: - كيف؟! غير معقول!

ولزمتُ بدوري الصمت علّ كايتانا تقدم لنا تفسيرا لما حصل. وبالفعل تابعت المرأة كلامها والدموع قد بدأت تلتمع في عينيها: - هذا ما حصل وبكل بساطة. عندما استدرت مع ميغيل لدخول المقهى بعد انصراف رينيه وكارمن وجدنا لوليتا واقفة بالباب شاردة النظر، فصرخ بها ميغيل مرحا: - ما بك يا لوليتا؟ لا تحزني ياصغـيرتي فإنها أكبر منك بسنة كاملة ... ولعـلك بعـد سنة تـجدين لك خـطـيبا أفضل من هذا

وما زال صوته يرن في أذني مرددا تلك الكلمات بدعابة ومرح. ولكن من يدري؟ لعـله لم يكن يشعر بأي سعادة في تلك اللحظات فكان يبدي مرحه ذاك ليزيح عني بعض ما كان يعتريني من قلق بين. إنني لم أتوصل قط لمعرفة شعوره الحقيقي في تلك الساعة من الصباح. ولما رأتنا لوليتا نقترب منها استدارت ودخلت المقهى دون أدنى تعليق على مزاح والدها مما أثار في نفسي ألف علامة استفهام جديدة. وضاعف سهوم وجهها من قلقي فدلفت الى المقهى لأعد الدقائق بانتظار عودة كارمن ولأتابع بكل جوارحي عقربيّ الساعة في دورانهما.

ولكن كارمن لم تعد . واخذ قلقنا نحن الثلاثة يطفو على سطح وجوهنا عندما مالت الشمس للمغيب ، فسيغوفيا بلدة صغيرة لا تتطلب زيارة معالمها وما حولها من قرى كل تلك الساعات التي كانت قد مرت منذ خروجها مع الغريب صباحا . وأخذ ميغيل يذرع المقهى جيئة وذهابا ، فلا يكاد يبتعد عن الباب الخارجي حتى يعود اليه و يجوس الشارع بنظره عله يرى سيارة رينيه . ولاحظ بعض زبائننا قلقنا ذاك وسألنا أكثر من واحد منهم عن كارمن ، فلم يكن غيابها عن المقهى عادي في تلك الساعة من المساء ، وصمت زبون شهد في الصباح مغادرتها مع الفرنسي ، وشكرته بنظراتي على صمته ذاك بينما كنت أقول للسائلين أن كارمن ذهبت لزيارة صديقة لها متوعكة صحيا . وبدت لوليتا أشدنا قلقا وتوترا ، وكانت قد قضت النهار في صمت وانهماك بأي عمل كنت أوصيها به أو كانت تختلقه هي بنفسها . وحل الليل ونحن لانكاد نصدق . أقبل الليل ولم تعد كارمن . لربما كانت تلك أول مرة يخلو فيها البيت من كارمن بعد حلول الليل . وكان ذلك بحد ذاته أمرا خطيرا بالنسبة لنا . ولم نكن نعلم في تلك اللحظات أننا كنا على عتبة أيام وشهور مشؤومة كابدنا شؤمها فيما بعد دقيقة بدقيقة

ورغم قلقنا الشديد ، كان لايزال لدى كل منا شعاع أمل يتمسك به ، وكنا جميعا على يقين بأن كارمن السمراء النقية .. الوردة اليانعة ، ستظهر بالباب بين لحظة وأخرى . لكن شيئا من ذلك لم يحصل . ولما لم يعد لدينا أدنى شك بأن أمرا غير عادي قد حصل لكارمن ، وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ليلا عندما انطلقت مع زوجي الى مخفر الشرطة وأخبرنا الضابط هناك عما حصل وكلانا يرتجف من شدة التوتر. وبعد أن أجبنا على اسئلة الضابط ، طلب منا أن نعود الى البيت وأن نترك الموضوع في يده ، وهكذا فعلنا . وبعد نحو ثلاث ساعات جاء الضابط الى البيت وطلب منا أن نريه غرفة رينيه ففتحنا له باب الغرفة ودخلنا معه ، وكم كانت مفاجأتنا كبيرة اذ لم نعثر بها على شيء من متاع رينيه وهو ما فجر مخاوفنا تفجيرا فأجهشت أبكي اذ أدركت كل شيء في غمضة عين . كان ذلك الوغد قد حمل معه كل متاعه صباحا ، أي أنه خطط لكل شيء مسبقا . وطلب منا الضابط أن نعطيه أوصاف رينيه وصورة لكارمن ثم انصرف على أن يتصل بنا حال توفر أية معلومات عنهما

ولم يغمض لنا جفـن طيلة الليل. وحاول ميغيل أن يعرف من لوليتا ان كانت على علم بأي شيء يساعدنا على العثور على أختها، ولكنها ظلت صامتة وواجمة لا ترد. وفي الصباح الباكر جاء الضابط وطلب من لوليتا أن تصطحبه الى المخفر. ولم تمض ساعة حتى عادت لوليتا وأخبرتنا أن الضابط يطلب مقابلتنا. وفي المخفر، وبعد أن حاول الضابط أن يهدأ من روعنا ، فاجأنا بقوله أن كارمن قد فرت مع الفرنسي بمحض ارادتها وأنها ستتصل بنا بعد زواجها به. وكانت صدمتنا مفجعة. وسألنا الضابط ، ونحن لا نصدق ما نسمعه منه، كيف يمكن ان يكون الفرنسي وابنتنا قد توصلا لمثل هذا القرار ولم يكن قد مضى على لقائهما سوى ساعات معدودة، وهل من المعقول أن يكون الحب قد اشتعل بقلبيهما وبهذه القوة من أول لقاء؟! وكيف توصلا الى ذلك الاتفاق وهما لم يلتقيا الا على مائدة العشاء ولم يتبادلا سوى بضع كلمات؟!. فأجابنا الضابط بأن لوليتا كانت على علم بكل شيء وأنها قد أخبرته عندما استجوبها بأن رينيه قد مرر لكارمن خلسة أثناء العـشاء ورقة طلب بها أن تقابله عند  باب العـمارة الملاصقة للمقهى بعـد أن ننام جميعا. واستجابت كارمن لطلبه، إذ كانت قد وقعـت في حبه بجنون. وقال لنا الضابط أنه من المؤكد أن كارمن اعتقـدت بأنه لاضير في لقياه على باب المبنى، وأنها ستكون مقابلة بريئة ومغامرة عابرة. وأخبرت كارمن أختها بأنها ستقابل رينيه وظلت الصغيرة تنتظرها على أحر من الجمر حتى عادت قبيل انبلاج الصبح لتخبر لوليتا بأنها عازمة على الفرار مع الفرنسي. وحاولت لوليتا بكل قواها أن تثنيها عن عزمها دونما فائدة وأخبرتها كارمن أن رينيه قد أصبح كل شيء في حياتها، وأنها قضت الليلة معه في غرفـته وأنه جعل منها امرأة وأنها لاتطيق فراقه لحظة واحدة. وقالت كارمن لأختها أنها تفضل أن تختفي من حياتنا لفترة قصيرة ريثما تعود المياه إلى مجاريها بزواجها من رينيه

صمتت المرأة للحظات اذ وصلت االى هذا الحد من روايتها ، لكن أحدا منا لم ينبس بكلمة اذ أصبحنا نعي فداحة مصاب هذه العائلة ، فتابعت حديثها تقول بصوتها الحزين الذي ألفناه مذ دخلنا بيتها : - خرجت مع زوجي من المخفر واجمين، وظللنا صامتين حتى وصلنا المقهى. وهناك أخبر زوجي الزبائن بأنه سيغلق المحل ورجاهم الخروج فغادروه جميعا دون احتجاج ودون أسئلة اذ كان بعضهم يشعر بأن مشكلتنا كبيرة فلم يسبق لميغيل أبدا أن أقدم على طرد الزبائن. وحال خروجهم واغلاق أبواب المحل أخذ زوجي بيد لوليتا وصعد بها الى هنا وضربها ضربا مبرحا حتى سمع صراخها أهل الحي ، ولولا أنني انتشلتها من بين يديه لقتلها ضربا. وأجهش ميغيل بالبكاء بعد ذلك كطفل صغير فما رأيته في حياتي يبكي بتلك المرارة والحرقة. وكان في بكائه لا يكف عن القاء اللوم على نفسه مرددا أن لوليتا لاشأن لها بما حصل وأنه هو المذنب الوحيد. وفي الوقت الذي كنت فيه بأمس الحاجة لمن يواسيني كنت أحاول مواساة زوجي فلما فشلت في ذلك أجهشت باكية معه ومع لوليتا. وفي مساء ذلك اليوم جاءنا الضابط بنتائج جديدة توصل اليها في تحرياته. وأول ما طرحه علينا كالصاعـقة قوله أن رينيه لم يكن برينيه، وأن ذلك كان واحدا من أسمائه المستعارة. وقال لنا الضابط أن ذلك الرجل هو في الواقع مجرم يعـمل في خدمة عصابة دولية للاتجار بالرقيق الأبيض وانه مطلوب من الشرطة في عدة بلدان أوروبية. وأضاف على مسامعـنا التي لم تكن تطيق المزيد من تلك الحقائق الفظيعة أن لديه معلومات تؤكد أن ذلك المجرم وكارمن قد اجتازا الحدود الى فرنسا وأن الشرطة هناك قد نشطت في البحث عنهما

وقبل أن يعود الضابط من حيث أتى حاول أن يخفف عنا مصابنا فقال لنا بلهجة المواسي : - ليست كارمن أول ضحية تقع في براثن هذا المجرم. إن سجله حافـل بمثل هذه الجرائم

وما أن انصرف الضابط حتى هب زوجي قائلا لي أن أعد له فورا حقيبة سفر . كان قد عقد العزم على الرحيل فورا الى فرنسا للبحث عن كارمن لينقذها قبل فوات الأوان ، ولم يكن هناك من سبيل لثنيه عن عزمه رغم أنه كان يعرف مثلي أن مهمته شبه مستحيلة . وكنت أرى في عينيه نية أخرى لم أجرؤ ولاحتى على سؤاله عنها خوفا من سماع الجواب المحتوم . لم يكن زوجي عازما على انقاذ ابنتنا وحسب ، بل كانت لديه أيضا رغبة جامحة بالانتقام من رينيه . وفي اليوم التالي سافر ميغيل وأنا لا أدري في قرارة نفس ان كان علي أن أمنعه أم أن أشجعه على السفر ، فلقد كنت أريد استرداد ابنتي بأي ثمن ، ولكنني كنت أخاف من عواقب تلك المطاردة

و هنا لم يتمالك يوسف سوى أن يسأل كايتانا بلهفة: - وهل عـثر على الوغد؟

فهب الشيخ يجيبه مستخدما مقولة اسبانية شعبية: - بل كان من الأسهل العـثور على إبرة في مخزن قش

وقالت كايتانا ترد على يوسف وتستأنف رواية ما حدث وصوتها يزداد حشرجة واختناقا: - كلا. رغم أنه مكث في فرنسا لثلاثة شهور كاملة، ورغم أن عددا من معارفه الاسبان ساعدوه في البحث عن رينيه وكارمن، ولكن دون جدوى. وكان يزودنا بأخباره أولا بأول. وقبيل عودته إلى سيغوفـيا تسلمتُ منه رسالة مع صديق قادم من فرنسا. كانت تلك رسالة مشؤومة طلب مني ميغيل فيها أن لا أريها لابنتنا لوليتا خوفا عليها من الإصابة بانهيار نفسي لو هي قرأتها. في تلك الرسالة أخبرني ميغيل أنه تأكد من أن كارمن تعـمل في أحد المواخير القذرة في باريس وأنه لم يستطع إطلاقا الوصول اليها لعلمها بأنه كان يبحث عنها. وطلب مني زوجي في رسالته أن أحاول كل جهدي نسيان كارمن فكأنها لم توجد قط، مهما كلفني ذلك من ألم. وقال لي أيضا أن اللعين رينيه معروف في الأوساط المنحطة، ولكنه لم يعثر له على أثر

ولكن تحريات زوجي في باريس لم تذهب سدى، وياليتها ذهبت سدى، فقد علم هناك أن رينيه موجود في البرتغال وأنه سيسافر الى إسبانيا من جديد. أتعلمان سبب زيارته الجديدة لاسبانيا؟ لقد كان يبحث عن فريسة جديدة لمواخيره الفرنسية. أوَ تعلمان على من وقع اختياره هذه المرة؟

وصمتت كايتانا وهي تنظر الينا ونحن في حالة من الذهول ازاء كل ما سمعناه. ولكن ذهولنا أصبح أضعاف الأضعاف عندما قالت المرأة، إزاء صمتنا: - لوليتا. نعم، عاد الوغـد ليفعل بلوليتا ما فعله بكارمن

وتبادلتُ مع يوسف نظرة استنكار وقد تملكتنا دهشة شديدة. وردّد يوسف بغـضب: - كيف يُمكن أن يوجد على وجه الأرض بشر بهذه الوقاحة!!

وتابعتُ كايتانا تقول وقد اكتسب حديثها سرعة وصوتها علوا في انعكاس جلي لتوتر أعصابها وهي تستذكر تلك اللحظات التعسة من حياتها: - نعم. لقد عاد رينيه ليقضي أيضا على ابنتي لوليتا التي لم يعـد لي غيرها في هذه الحياة. كان يعلم جيدا أن كلتا البنتين، كارمن ولوليتا، قد فتنتا بشخصيته الزائفة. فبعـد يومين فقط من تسلمي تلك الرسالة من ميغـيل لاحظتُ تجهما مفاجئا حل بوجه لوليتا وسيطر على تقاسيمه. وأثار تجهمها قلقا عميقا بي. ولا أخفيكما أنني كنت أشك طيلة غياب أبيها بأنها كانت على اتصال باختها، بطريقة ما، ولكن ثبت لي بعد ذلك أن اعتقادي ذاك لم يكن في محله، وأبت البنت باديء الأمر أن تخبرنني عن سبب ذلك التجهم الذي طرأ عليها. صحيح أن القلق كان حليفنا منذ أن عبر الأشقـر عتبة المقهى لأول مرة، ولكن قلق لوليتا ذاك كان جديدا وغريبا

والحق أن لوليتا كانت قد تحولت من طفلة الى امرأة عاقلة خلال الشهور التي تغيب خلالها ميغيل عن البيت، وهي نتيجة حتمية للمعاناة والألم النفسي الذين كنا نكابدهما. لقد صقلت تلك الأحداث المشؤومة شخصيتها وشحذت عقلها، وهو ما لم يكن يعرفه الأشقـر اللعـين ولاخطر له ببال

ولكنني تمكنت في النهاية من معرفة سبب قلقها: كانت قد تلقت صباح ذلك اليوم مكالمة من رينيه أخبرها فيها أن أختها تريد مقابلتها. ولما سألته عن أختها ولماذا لا تحدثها بنفسها قال لها أن كارمن مصابة ببحة قوية تجعل من العسير عليها التحدث عبر الهاتف، وطلب من لوليتا أن تنتظرهما عند قلعة سيغوفيا وحدد لها موعدا لذلك. وذهبت لوليتا بعد ذلك بنحو ساعة إلى الساحة التي تعرفانها خارج القلعة وهي تطمع حقا بمقابلة أختها . لكن الأشقر كان بانتظارها بمفرده. وسألته ابنتي بفتور عن أختها فقال لها أنها تنتظرهما في مدريد لأنها تخشى المجيء الى سيغوفيا حيث لها معارف كثيرون يمكن أن تصادف أحدهم فيخبر والدها. لكن لوليتا رفضت مرافقته الى مدريد رغم الحاحه عليها ولجوءه لكل فنون الاقناع التي يتقنها مع الفتيات الساذجات. ولم تكن ابنتي بالفتاة الساذجة ، وكانت تعلم بالضبط لأي صنف من الأوغاد كان ينتمي ذلك الفرنسي . كانت لوليتا، دون علم مني، قد قرأت رسالة أبيها، الأمر الذي جعلها بعيدة كل البعـد عن مخالب ذلك الوحش، وكان حذرها منه على أشده فلم تذكر له أي شيء عن مطاردة أبيها له اذ بدا لها أنه لم يكن على علم بها

كان رينيه الذي أغوى كثيرا من الفتيات قد وقع في شباك صغيرتي لوليتا، فقد أقنعته بأنها ستذهب الى مدريد في اليوم التالي لمقابلة أختها. كانت ابنتي الصغيرة قد أدركت نواياه الحقيقية وعدم مرافقة كارمن له في رحلته تلك لاسبانيا. ولم يخطر ببال الصياد بأنه وقع ضحية لعصفورة مهيضة الجناحين، فأعطاها عنوان الفندق الذي كان ينزل فيه في مدريد لتقابله هناك في اليوم التالي. وانصرف الأشقر مطمئنا الى أنه سيظفر بلوليتا على انفراد في مدريد حيث لا تعرف أحدا. أما ابنتي فعادت الى البيت وهي في الحالة التي وصفتها لكما من التجهم وهي لاتعرف ماذا تفعل، حتى أخبرتني بكل شيء

والمصائب أيها الصديقين لا تحل فرادى، بل مجتمعة. وهذا ما حصل في ذلك اليوم. فبينما كنت أهم بالخروج مع ابنتي لابلاغ ضابط الشرطة بعودة الأشقر طرق باب المنزل فلما فتحته وجدت زوجي أمامي. وكان لقاءا سعيدا لا أنساه ماعشت، فلم نكن قد افـترقنا ولا مرة واحدة منذ زواجنا قبل ذلك بعشرين عاما

ولكنني كنت أشعـر أن تلك اللحظات لم تكن سوى صحوة الموت لسعادة آفلة. وصبرت حتى اليوم التالي فأخبرت ميغـيل بأمر الأشقـر، فجن جنونه وفتحت كل جراحه مرة واحدة وراح يصرخ كـمن فقـد عقله: " ألهذه الدرجة كنت طيبا مع الناس ... ألهذه الدرجة اعتقدوا أنني كنت غبيا". ثم لما هدء روعه شيئا ما، واعتقد الآن أنه إنما تصنـّع الهدوء حتى نصدق كلامه، قال لنا أنه سيذهب لمقابلة رينيه عله يتفـق معه على تمهيد لقاء مع كارمن مقابل أن ننسى جميعا الماضي. وألحّ عليّ وعلى لوليتا بعـدم إبلاغ الشرطة كي لا تعـرقل هذا الاتفاق. ثم ودّعـنا وانصرف

أما بقية القصة فانكما تتوقعانها. لقد ذهب ميغيل الى الفندق الذي كان الأشقر نازلا فيه، ولما قابله وجها لوجه أشبعه ضربا ثم طعـنه عدة مرات بسكـين كبيرة اشتراها في مدريد لهذا الغرض

وساد صمت جديد حتى سألتها عن لوليتا إذ لفت نظري عـدم وجودها معنا، فقالت كايتانا وقد استردت عيناها بعض بريقهما: - لا عليكما. إنها بخير. لقد ذهبت لمدريد لتعِـد بعض الأوراق الرسمية الخاصة بالتحاقها بالجامعة هناك. ألم أقل لكما أن لوليتا أصبحت عاقلة وواعية

وتنفسنا الصعداء

ولما خرجنا من ذلك البيت لم نتمالك سوى أن نلقي نطرة حزينة على ذلك المقهى وبابه المغلق وقد غطاه الغبار. وخـُيـّل إليّ في تلك اللحظات سماع ضجيج الزبائن ورنين الكؤوس والفناجين والملاعق، وصوت ميغيل يضحك ملء شدقيه، يداعبُ هذا ويلاطف ذاك ويتناقش مع رواد المقهى بشؤون كرة القدم، ويصيحُ من حين إلى حين: - يا كارمن .. قهوة بالحليب للسيد أنطونيو. فأرى فـتاة على عتبة الشباب تسارع لإعداد القهوة مستجيبة لنداء أبيها، وابتسامة عريضة تعلو شفتيها وهي تداعب بكلام مرح أختا لها أصغر منها سنا تقضي معظم وقتها شاردة الذهن، فتسارع هذه الى نافذة صغيرة تطل على مطبخ كبير وتصرخ بأمها أن تأمر كارمن بالكف عن الهزو منها، فتضحك الأم الطيبة وتقول بصوت عال مداعبة بدورها ابنتها الصغرى: - يا لوليتا متى ستصبحين كبيرة وعاقلة ؟

مدريد 1976

قصة نشرت في مجموعة قصص (المؤتمر) لسعيد العلمي في 1992

DEJE AQUÍ SU COMENTARIO    (VER COMENTARIOS)


COMPARTIR EN:

Todos los derechos reservados كافة الحقوق محفوظة - Editor: Saïd Alami محرر الـموقـع: سـعـيـد العـَـلـمي
E-mail: said@saidalami.com